الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المتقين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد:
فإن من أرفع صفات الداعية الرباني التواضع وخفض الجناح للمؤمنين..
نعم أخي الداعية: إن الوارث الحقيقي لإمام الدعاة عليه الصلاة والسلام هو ذلك الذي يكون بين إخوانه متواضعًا غير متكبر، خافضًا جناحيه غير متجبر، ولم لا؟ أو ما كان إمامه عليه الصلاة والسلام كما وصفه ابن القيم (يمر على الصبيان فيسلم عليهم، وتأخذ الأمة بيده فتنطلق به حيث شاءت، ويكون في بيته في خدمة أهله يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، هينَ المؤنة، لينَ الخلق، كريمَ الطبع، جميلَ المعاشرة، طلق الوجه بسَّاما، متواضعًا من غير ذلة، جوادًا من غير سرف، رقيقَ القلب رحيمًا بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين لين الجانب).
نعم يا معاشر الدعاة لقد كان إمامُكم عليه الصلاة والسلام نعمةً مسداة ورحمةً مهداة، جمع التواضعَ كلَّه فكان كما وصفه القاضي عياض: (يبدأ أصحابه بالسلام ولا يسحب يده إذا صافح أحدًا إلا بعد أن يسحبها من يصافحه، ويجلس حيث ينتهي به المجلس وينزل إلى السوق، ويحمل بضاعته بنفسه.. وحين فتح الله عليه مكة، دخلها متواضعًا لله، وقد خفض رأسه حتى كاد يمس واسطة رحله، ولما كلَّمه رجل يوم فتح مكة، وقد أخذته الرعدة من شدة الخوف قال له الرسول الكريم: هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد). وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم أذلةً على المؤمنين أعزةً على الكافرين، وانظر إن شئت حال الصديق رضي الله عنه قبل أن يتولى الخلافة وقد كان تاجرًا يحلب لأهل الحي أغنامَهم فلما صار خليفةً للمسلمين قالت جاريةٌ من الحي: الآن لا تحلُّ لنا منائحُ دارنا، فلما سمعها رضي الله عنه قال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلقٍ كنتُ عليه. فكان يحلب لهم..
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلبس المرقع، ويعالجُ إبلَ الصدقة من الجرب بنفسه، فيطلبها بالقطران لتبرأ من جربها، ثم تراه في حينٍ آخر ينفخ النارَ لينضج الطعام للأطفال الفقراء، رضي الله عنه، قد كان يكفيه في عمله هذا عبدٌ رقيق، لكنها حالُ من آثر أن يكون عبدًا ذليلًا للسيد الأعلى سبحانه وبحمده... واعجب لأشج بني أمية حفيدِ الفاروق نسبًا وعلمًا وورعًا عمر بن عبد العزيز الذي يكون في مجلسٍ في قومه فيعتذر ليصلح بعضَ شأنه فلما عاد قالوا له: كنا كفيناك ذلك فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر، ما نقص مني شيء، فلله دره وعليه شكره.. ما أعظمه من رجل!
وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه كان أميرًا على المدائن، يأتيه رجل من أهل الشام معه حملُ تينٍ يقول له: تعال احمل وهو يظنُّه حمَّالًا للناس، ويحمل سلمان الحمل ويراه الناس ويقولون: هذا الأمير! ويرتعد الشامي ويعتذر متلعثمًا من شدة المفاجأة، لكن سلمان لا يترك حملَ الشامي حتى يوصله إلى منزله.. لعل حملَ أثقالِ الخلقِ، والسعيَ في حاجاتهم يعظم له أجرا، وينشر له في الملأ الأعلى ذكرا..
إن الدعاة الصادقين هم الذين يتحلون بالتواضع وخفض الجناح في جميع أحوالهم، وإنما تشتد حاجةُ إظهارِ الخلق النبوي الرفيع هذا، في أيامنا العجاف هذه، وقد تشوَّف الكثير من الأدعياء لشهوة إضفاءِ الألقاب، وتصدرِ المجالس وتسنمِ المناصب، إلى غير ذلك من أحوالٍ أجنبية عن عرف سمو الدعوة..
ولك فيما قرأته- أخي الداعية- من أحوال سلفنا الصالح خير قدوة وأسوة {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون في الأرض علوًّا ولا فسادا والعاقبة للمتقين}..
والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: محمد العيساوي.
المصدر: موقع كتاب عبد الله بن مسعود.